اقترن اسم “خربوشة” في المغرب بدلالات ومعاني تاريخية عميقة. فهو اسم شهرة لامرأة مغربية، اسمها الحقيقي “حويدة الغياثية”، عُرفت بشخصيتها القوية والمؤثرة. تُعرف أيضا بلقب “لكريدة زروالة زايدية” نسبة إلى قبيلتها، اولاد زايد. ولدت وعاشت في إقليم عبدة، بالقرب من مدينة آسفي، وسط المغرب، في نهاية القرن التاسع عشر.
ويُحيل لقب “خربوشة” إلى الآثار والندوب التي تركها مرض الجدري على وجهها. كما يطلق عليها بعض الناس لقب “كرادة”، كناية عن شعرها المجعّد. امتدّ صيت خربوشة داخل المغرب وخارجه، بفضل قصائد “العيوط”، وهو فنّ كلامي مغربي، التي خلّفتها، والتي كانت موسومة بطابع القوة والتمرّد والانتقاد، تصدّت بها لجبروت القادة والمسؤولين الذين ساهموا في حكم القبائل المغربية. ولعلّ “القايد عيسى بن عمر”، من أهمّ الشخصيات التي طبعت قصائد خربوشة.
لم تكن ل”عيوط” خربوشة حدودا تقف عندها، بل كانت سلاحا كلاميا بمعنى الكلمة. لنقرأ ما كتبته وهي توجّه غضبها على القايد عيسى
“ا خايتي عليك آ الأيام.. آ الايام آ الايام.. ايام القهرة والظلام.. وا فينك يا عويسى.. فين الشان والمرشان.. شحال غيرتي من عباد.. شحال صفيتي من سياد.. بلا شفقة بلا تخمام.. حرقتي الغلة وسبيتي الكسيبة.. يتمتي الصبيان بالعرام..”
اشتهرت خربوشة الغياثية، الملقبة بـ”المرأة الحديدية”، بدورها البارز في صراعها مع القايد عيسى بن عمر الثمري، واحد من أكبر قادة المغرب القديم. ولد القايد عيسى في قبيلة البحاترة، ونشأ في بيت المخزن (وصف محلّي لرجالات النظام في المغرب)، حيث كان أخوه الأكبر، القايد محمد بن عمر الثمري، أحد رجال المخزن، وقد عمل كملازم له وخلفه في القيادة عام 1879 بعد وفاته.
كان القايد عيسى بن عمر شخصية جبارة ومتمردة، وتسبب في العديد من الانتفاضات، بما في ذلك انتفاضة ولاد زايد في الفترة المعروفة في تاريخ المغرب بـ”السيبة”. كانت تلك الفترة تشهد اضطرابا في الحكم، حيث انفلتت السلطة من يد المخزن، وشهدت بعض الانقلابات، مثل انقلاب الجيلالي الزرهوني المعروف بـ”بوحمارة” وتمرد بعض قبائل تازة على السلطة المركزية. تعرض المغرب لأزمة خاصة بعد وفاة السلطان محمد الأول سنة 1894، وتولّى السلطان عبد العزيز، الذي كان آنذاك في سن الحادية عشرة العرش. وكان الصدر الأعظم أو الحاجب الملكي با احماد يتولى السلطة الفعلية في شؤون البلاد. وقد أثار هذا الأخير الذي تسبب في الفوضى نزعة التمرّد لدى بعض القبائل على المخزن.
في ذلك الوقت، كان القايد عيسى بن عمر حاكما مطلقا في مناطق عبدة، وكانت سلطته واسعة. وإبّان ذلك، زاد جبروت القايد عيسى بشكل مفرط، وانتشرت شهرة خربوشة بين القبائل ووصل صداها إلى محيطها. كانت تنظم أبيات شعبية أمام رجال قبيلتها لتحثهم على الجهاد والدفاع عن شرف القبيلة وحمل السلاح في وجه العدو بعد عودتهم من المعارك. تحفزهم بكلماتها التي انتشرت في كل مكان.
بلغت خربوشة المجد بفضل قصائدها، وكانت محل إعجاب الكبار والصغار. وقيل عنها أنها المرأة الثائرة، التي تنبثق من أنيابها لهيب النيران، وتهز الأرض تحت خطواتها القوية. وبالتالي، أصبحت رمزا للثورة في الذاكرة الشعبية للمغاربة، وخاصة لأهالي عبدة.
لم تكتف بالهجاء والتشهير بعيسى بن عمر، بل ذهبت أبعد من ذلك. ووصفته بأنه خائن، نظرا لتلفيقه مؤامرة ضد أبناء قبيلة اولاد زايد، حيث أوهمهم بنيته عقد صلح معهم، ثم قام بقتل سفيرهم بطريقة خائنة وهو يأتي إليه بنية مصالحة وسلام. بعد تلك الحادثة، اندلعت معركة مريرة في منطقة بئر العرب بمدينة آسفي المغربية.
في أعقاب الحادثة الأليمة، لم تخف خربوشة حقدها على عيسى بن عمر، وكانت عائلتها من بين المتضررين الأكثر جراء تلك الحادثة. وعلى إثر ذلك، توعدته بإنهاء ملكه ونهاية سلطته. ولم تتجاهل أيضا ذكر باقي رجالات القايد عيسى، مثل “جعاطة”، الجلاد الذي كان يعمل تحت حكم بن عمر وينشر الظلم والضرر بين الناس.
تضيف قائلة في نفس كلمات الأغنية التي ما تزال محلّ شهرة في المغرب إلى اليوم عن القايد عيسى
“تعدّيتي وخسرتي الخواطر.. ظنيتي القيادة للدوام.. السيد مبقالو شان.. والرعواني زيدتيه للقدام.. سير آعيسى بن عمر.. يا وكال الجيفة.. يا قتال خوتوا.. يا محلل الحرام”
يقولون إنّه بعد انتشار تلك الأغنية في عبدة، وصل خبر ذلك إلى القائد عيسى، وهو الذي اعتادت أذناه على المديح فقط. لكن هذه المرة كانت الكلمات مليئة بالهجاء الحاد والتهكم المباشر، وبالتالي، أمر رجاله بالبحث عنها والقبض عليها، استعدادا لمحاكمتها وسجنها.
اضطرت خربوشة إلى الفرار، وتوجهت نحو الشاوية (منطقة قريبة من عبدة). تقول الروايات إن رجال القائد عيسى تمكنوا من القبض عليها، لكن جماعة من قبيلة اولاد زايد نجحوا في حمايتها ومنع اعتقالها. وعلى الرغم من ذلك، لاحقها رجال عيسى حتى تمكنوا في المحاولة الثانية من اعتقالها.
تم اقتياد خربوشة إلى المحكمة ثم إلى السجن، ولكنها لم تتراجع رغم ذلك عن هجومها والتشهير بعيسى بن عمر، حيث كتبت هناك قصائد تحمل صبرها وألم فراق عائلتها، ووعدتهم بالعودة القريبة.
تناقلت الأخبار تفاصيل متضاربة حول وفاة خربوشة. فمن يقول إنها هربت من السجن وتوفيت، وهناك من يزعم أن عيسى بن عمر كان وراء اغتيالها في محبسها. ومع ذلك، تظل الذاكرة الشعبية لقبيلتها تحمل ذكراها البطولية في مواجهة الظلم، وتعتبر وفاتها الشريفة مثالا يحتذى به لعدم الاستسلام أمام جبروت الظالمين.
عادت أغنية خربوشة إلى الانتشار في المغرب خلال السنوات الأخيرة، وأعاد فنانون مغاربة شباب غناءها بتوزيع جديد، وهو ما جعلها تنتشر على نطاق واسع. وهي الأغنية التي تعتلي اليوم قائمة الأغاني التراثية في المغرب.